تحت الكوبري

by Sunday, July 22, 2012 0 تعليقات


رأيته ثانية تحت الكوبري في طريقي من القهوة إلى المنزل .
كان واقفا قبالة الحائط الصخري في بطن الكوبري يتبول و قد تقلصت عضلات مؤخرته الضامرة لتغوص اكثر داخل البنطلون الجينز المتسخ . سلمت عليه و انا امر به دون أن أتوقف فعرفني من صوتي كما عرفته من ظهره . رد السلام دون أن بلتفت ثم استوقفني قائلا " خليك شوية ها أخلّص و أتمشي معاك " .إقتربت منه و إنتظرت صامتا فأخبرني بنبرة واثقة أنه يفضل قضاء حاجته هنا مع أن دورة المياه في القهوة نظيفة دائما . ينظفها بنفسه مرتان كل يوم . و لكنه يتركها ليتبول هنا لأن أصوات السيارات العابرة فوق الكوبري يساعد على تدفق الماء .
في الطريق سألني إن كنت أذكر ذلك الرجل الأجرد الذي جلس في الركن المجاور للمكان المعتاد الذي أجلس فيه بالقهوة  . سألته : أي يوم ؟ أجابني بإستنكار : اليوم .. منذ نصف ساعة حين كنت جالسًا في القهوة تلعب بموبايلك .. الرجل الأجرد .. بلاشعر ولا حواجب يرتدي يونيفورم عمال النظافة و برنيطة .. جلس قليلًا فتح كيس بلاستيكي كان معه فأخرج منه بعض الطعام . أكل و طلب شاي ثقيل شربه و مضى دون أن يدفع الحساب كعادته .. كيف لا تذكره ؟ 
- آه إفتكرت .. ماله ؟ 
توقف عن السير فتوقفت بدوري . أدخل يديه في جيوب بنطلونه و نظر إلى قدميه. مال بجذعه قليلا إلى الوراء فإرتكز على كعبيه و رفع صوابع رجليه عن الأرض و أنزلهما ثانية و هو يحكم إدخالهما في فتحتي الشبشب و قال: منذ فترة لاحظت بقعا خالية من الشعر بدأت تظهر في فروة رأسي .. و كنت أفكر .. الإنسان الأجرد .. هل يولد من بطن أمه هكذا أم يكون طبيعيا ثم يداهمه مرض أو عدوى ؟ 
------
قابلتها ثانية تحت الكوبري . كانت العجوز ترفل في جلبابها القذر و ترتدي فوقه بلوفر أخضر من مخلفات الجيش . تجر خلفها شنطة خضروات كالحة اللون مليئة بأكياس نايلون منتفخة ، متعددة الألوان و محكمة الربط . عبرت من أمامي ببطء . عجلات شنطة الخضار التي تجرها تئن في صرير معدني مكتوم . يحتك نعل شبشبها بالأرض فيطحن التراب أسفله مصدرا خروشة . بالكاد ترفع قدميها عن الأرض وهي تمشي بل هي عمليا تزحف على قدمين .كأنما تتكئ على كتفيها يد الله فتلصقها بالأرض لصقا . لم يبد عليها أنها لاحظتني . لا يبدو أنها تلاحظ أي شيء مع أن عيناها تدوران في كل مكان بلا تركيز كأنما تبحث عن شيء ما متناهي الأهمية تتعلق به حياتها .
توقفت لبرهة ثم بصقت في الهواء و قالت بحدة و هي تلوح بيديها الإثنين : ولاد الوسخة .. هما فاكريني مين .. دنا أطلع ميتين اللي جابوهم ولاد الكلب المعرصين . 
إلتفتت بحدة ويبدو أنها رأتني الآن فقط فجذبتني من قميصي بيدين متجعدتين و أظافر متسخة بلون رصيف الشارع . إقتربت بوجهها مني وهي تصرخ : أنت يا شرموط بتغتصبني و انا نايمة تحت الكوبري ليه . كل يوم .. كل يوم بتغتصبني و انا نايمه يا وسخ . 
تركتني بغتة فرجعت خطوتين للوراء متأهبا للهرب وإنشغلت هي بالبحث عن شيء ما على الأرض حتى لمعت عيناها حين رأت قالب طوب متهشم .. أبعدت ساقيها عن بعضهما و إستندت على الحائط ومالت بجذعها في صعوبة و هي تلهث لتلتقط ما بقي من قالب الطوب فلم أمهلها و أطلقت ساقي للرياح . لم أتوقف إلا حين قطعت مسافة مناسبة و كنت قد عبرت بحر الطريق و إلتفت لأنظر إليها واقفة على الجهة الأخرى أسفل الكوبري تلوح بقالب الطوب و تبصق في الهواء . 
 ---
رأيتهما ثانية تحت الكوبري .. كانت تفتش في مقلب القمامة إلى جوار كلب بلدي متشرد . توفقت عن نبش القمامة حين رأته قادما على عجلته . ركلت الكلب في بطنه فذهب و هو يعوي متألما و جلست إلى جانب شنطة الخضروات فأسندت ظهرها إلى الحائط . ترجل من فوق العجلة و تمدد متكئا بظهرة على صدرها . إستقبلته ببساطة و احاطته بذراعها الأيسر و مدت الأخر إلى عب قميصها فأخرجت منه فرشاة شعر بلاستيكية متسخة مقبضها مكسور . دفعت رأسه برفق بعيدا عن صدرها و جعلت تمشط شعره الأكرت القصير و هي تتمتم تهويدة ناعمة عن النوم و الملائكة .




هوامش : الصورة للطفلين نعمة و بلال من ألبوم " تحت الكوبري " أحد ألبومات صفحة كايرو لايف على الفيسبوك
---
اليوم 22/7/2012 يمر على إنشائي لهذه المدونة ستة سنوات كاملة .. وهو أيضا تاريخ ميلادي  .. فأنا و منذ كان عمر هذه المدونة سنتان فقط كنت أذكر بفخر انها أطول مشروع إلتزمت به - إختياريا - في حياتي . أما الآن و بعد أن صارت المدونة جزء مني فلا يسعني سوى أن أشكر كل المتابعين الأعزاء .. أصدقائي و الذين يتابعون مدونتي دون أن أعرفهم أو يعرفوني بشكل شخصي . و كل من أتى إلى هنا ليقرأني . شكرا لكم

  ---

على باب الله

Developer

Cras justo odio, dapibus ac facilisis in, egestas eget quam. Curabitur blandit tempus porttitor. Vivamus sagittis lacus vel augue laoreet rutrum faucibus dolor auctor.