سرسوب هوا

by Friday, August 24, 2012 0 تعليقات

توقفت فرقة البطاريق عن العزف فكف الحضور عن الرقص و تعلقت أبصارهم بمنصة الموسيقيين حيث تقدم أحد البطاريق إلى مقدمة المنصة بمشيته التي تشبه حركات شارلي شابلن الهزلية وتوقف أمام الميكروفون . عدل من وضع البابيونة الحمراء حول رقبته و قال بصوت رخيم : الآن فقرة التحطيب .
تراجع الحضور ليلتفوا حول ترابيزاتهم و خلت ساحة الرقص فتقدم " بات مان " و هو يلوح بنبوته ثم إنحنى امام تصفيق الحاضرين . و من الجهة المقابلة تقدم غسان مطر يحمل نبوته فاستقبله الجمهور بتحية مماثلة . 
لعبت فرقة البطاريق الموسيقية موسيقى صعيدية راقصة بعد أن أبدل أعضاء الفرقة البدل السموكن بالجلاليب . 
بدأ " بات مان " و غسان اللعبة على مهل ، ثم مع لعلعة الموسيقى زادت وتيرة الضربات و إرتفعت حماسة الجمهور . كانا يرقصان كعصفورين و يتبادلان قعقعة النبابيت كما يتبادل العشاق رسائل الغرام . وفي لحظة شاردة إلتقت عيناهما .. بات مان بعيناه الزرقاوان من خلف قناعه الأسود و غسان مطر بعيناه المحتجبتان خلف نظارة الشمس .  توقف الزمن و ذابت النجوم . من كان يتوقع أن يلطشهما الحب . أخذهما كيوبيد بالقفا على غفلة .
-----
على شرفة قصر "بات مان " المنيف التي تطل على ترعة المريوطية بأول طريق سقارة كان غسان يتكئ على سور الشرفة مختليا بنفسه يتأمل ظل القمر و هو ينام على سطح الماء بعيدا عن صخب الحفلة التي تعترم في فناء القصر 
" إذن أنت مثلي تحب الهدوء"
قالها "بات مان " و هو يقف على طرف الشرفة يحمل في يديه كأسان من السوبيا الساقعة فإلتفت إليه غسان مطر بسرعة فكادت نظارة الشمس أن تنزلق من فوق عينيه إلا ان لحقتها انامله و هي على طرف أنفه فأعادتها إلى مكانها و لكن هذا الجزء من الثانية التي إنكشفت فيها عيناه لم تكن لتعبر على "بات مان " دون ملاحظة . فوشت بما يعترك في قلب صاحبها من هوى و شوق مطمور تحت طبقات من الوقار و العقلانية .
إقترب منه "بات مان " أكثر و هو يقول : دع القلق و إبدا الحياة .. و كما قال صديقي و أستاذي الراحل الدكتور إبراهيم الفقي : " الناجح هو الذي يظل يبحث عن عمل بعد أن يجد وظيفة " .. دعنا نختصر أكثر و نعترف أننا قد وقعنا في الحب 
ضربت ساعة المعصم الكاسيو التي يرتديها غسان نغمة موسيقية فنظر إليها بإرتباك و هو يقول : "منتصف الليل .. يجب أن أرحل على الفور" . خرج من الشرفة و طوى سلالم القصر طيا بإتجاه باب القصر و ذيل بدلته البيضاء يطير من خلفه و هو يجري .
ناداه "بات مان " برجاء : إلى أين ؟ 
أجابه غسان دون أن يلتفت أو يتوقف عن العدو : يجب أن ألحق خطاب السيد الرئيس محمد مرسي  
---

 في مخدعه جلس "بات مان " على كرسيه الهزاز و بين يديه فردة جزمة بيضاء جلدية مقاس 47 كانت قد إنخلعت من قدم غسان و هو يجري فإلتقطها احد الخدم من على سلم القصر و سلمها لبات مان الذي بات ليلته يتأملها و يقلب فيها و يحتضنها . و في النهار التالي كان قد كلف خادمه الأمين بالبحث عن أمهر ماسح أحذية في محيط قهوة البورصة و التكعيبة و البستان بوسط القاهرة ليريه فردة الجزمة البيضاء لعله يتعرف على صاحبها . 
كانت مهمة الخادم سهلة فجميع رواد مقاهي وسط البلد يعرفون عم عليش ، أشهر ماسح احذية في القطر المصري . وجده الخادم امام قهوة الأصدقاء بالبورصة يجلس القرفصاء خلف صندوق الورنيش و يقرعه بالطرف الخشبي لفرشاة التلميع معلنا عن وجودة و إستعداده للخدمة . فسلمه الخادم فردة الجزمة و وعده بمكافأة مالية محترمة إن إستدل على صاحبها .
----
في منزله برملة بولاق حل عليش رباط شنطته وأخرج منها فردة الجزمة البيضاء . كان عليه أولا أن يلمعها جيدا حتى يتسنى له معرفه صاحبها . إن كان من رواد مقاهي وسط البلد ، أخرج من صندوق الورنيش عدته و بدأ يمسحها بخرقة زفرة ليزيل التراب من فوقها . و فجأة إنبعث دخان أحمر كثيف من عنق الجزمة فألقاها عليش بعيدا و هو مرتعب يراقب تدفق الدخان المستمر من الجزمة . أراد أن يهرب بجلده لكن الأمن المركزي كان يضرب بلطجية رملة بولاق في الخارج بشدة .. كان الموت يحاصره من جميع الجهات إن قبع في بيته أو هرب منه .. تسمر في مكانه يراقب الدخان وهو يتكاثف فيأخذ شكل رجل أحمر البشرة و الملبس . 
- أنت من الجن ؟ 
قالها عليش وهو يتذكر قصص جني المصباح و السبع أمنيات فيتأرجح بين الخوف و السعادة 
- انا من منظمة " حدتو " 
- مين ؟ 
- " حدتو " .. الحركة الديموقراطية للتحرر الوطني .. كيف لا تعرفها !؟ 
قال عليش بغباء : انا أعرف الحزب الوطني .. و الإخوان المسلمين فقط .
قال الرجل الأحمر: كنت من شباب منظمة " حدتو" الشيوعية . و حين تطاولت على الذات الرئاسية للسيد الرئيس جمال عبد الناصر عاقبني فحبسني في هذه الجزمة إلى أن مسحتها أنت فحررتني 
- هذه الجزمة لم يتم تلميعها منذ عهد عبد الناصر ؟ 
أجاب الرجل الأحمر بأسى : لغسان مشاكل خاصة بالصحة و النظافة إن سردتها عليك واحدة واحدة إتهمتني بالجنون .. 
- يا منجي من المهالك !
ثم إستطرد عليش متسائلا : طيب .. هل تحقق لي سبع أمنيات كجني المصباح ؟ 
- لا 
ثم بتوسل أكثر : و لا حتى ثلاث أمنيات ؟
رد الرجل الأحمر ببرود : مكانش يتعز .. كنت أخرجت نفسي من الجزمة
-طيب
سأل الرجل الأحمر: قل لي إذن أين أجد أقرب مقر لأحد الأحزاب الشيوعية؟
- الشيوعين تعيش أنت 
- يا راجل !؟ 
- آه و النعمة 
- طيب و مين اللي ماسك مصر دلوقتي ؟
- الإخوان المسلمين
 سرح الرجل الأحمر قليلا ثم قال فجأة : إذا لا مفر من عودة التيار الشيوعي ، سوف أكون بطلا و سوف تساعدني أنت . سأرتدي زيا مثل زي سوبرمان يحمل على صدره رمز النجمة الحمراء .. سأتسلح بالمنجل و الشاكوش .. سأحارب الرأسمالية أينما وجدت .. سوف .. 
أخرسه عليش بضربة قوية بصندوق الورنيش على رأسه فسقط مغشيا عليه . 
وقف عليش فوقه قائلا : انا اخوان مسلمين يا أبن الكلب ، المرة دي الريس مرسي هيحبسك في شبشب زنوبة يا ابن القحبة

----------

على باب الله

Developer

Cras justo odio, dapibus ac facilisis in, egestas eget quam. Curabitur blandit tempus porttitor. Vivamus sagittis lacus vel augue laoreet rutrum faucibus dolor auctor.