مأساة المشاع ، مدخل إلى القوانين

by Sunday, January 05, 2014 0 تعليقات
Garrett Hardin
في 13 ديسمبر 1968 نشر البيولوجي/عالم البيئة د. جاريت هاردن ( الصورة على اليمين ) ورقة بحثية بعنوان Tragedy of the commons أو "مأساة المشاع" <1>
الورقة البحثية يمكن تلخيصها -بإختزال مُخل- في المثال الشهير الوارد فيها ؛

مساحة خضراء/مرعى محدود المساحة، مفتوح، يتم السماح للجميع بإستخدامه والإستفادة منه . فيطلق مربو الماشية ابقارهم لترعي فيه بحرية وكثافة بدون مراعاة لقدرة المرعى الاخضر نفسه وحدود إستيعابه من حيث عدد الحيوانات الراعية او الفترة الزمنية اللازمة لإعادة نمو العشب فتكون النتيجة المنطقية للرعي الجائر هي التصحر  وتعرية التربة ونضوب مواردها . لكن عند إعتماد ما يمكن تسميته مجازا نظام "الملكيات الخاصة" حيث يتم تقسيم ذات المساحة الخضراء/المرعى إلى ملكيات خاصة يتملك كل مُربي ماشية إحداها بمفرده سنجد ان النمط السلوكي لمربي الماشية يختلف جذريا حيث يبدأ كل واحد منهم في مراعاة متطلبات ملكيته الخاصة من الارض بما يكفل له مصلحة مستدامة فيقلل من عدد حيواناته الراعية ويعتني بالمساحة الخضراء خوفا من التصحر . 
المرعى ك "مشاع" على اليسار وقد اصابه التصحر وك "ملكيات خاصة" على اليمين
الاختلاف في سلوك مربو الماشية في الحالتين قائم بالأساس على فكرة "المصلحة" . في " المشاع" حاول كل فرد منهم أن يفعل ما يحقق له اكبر مصلحة ممكنة (رعي اكبر عدد من الماشية) وحتى لو كان يعرف مسبقا ان الجميع سيفعلون مثله وان النتيجة الحتمية لذلك التصرف هو تصحر الارض ونضوب موارد التربة تظل مصلحته الأكبر هي ان يرعى اكبر قدر من الماشية لأنه إن لم يفعل هو سيفعلها الآخرين وتنضب الارض دون ان يحقق اكبر استفادة ممكنة .
اما في نظام "الملكيات الخاصة" سيتحمل كل فرد عواقب افعاله بشكل مباشر وسيتحملها بمفرده . عواقب افعاله بشقيها (المكسب والخسارة) أما في الحالة الأولى "المشاع" فالخسارة مشاعية أي إنها ستلحق بالجميع والصراع هنا هو على "حجم الخسارة"، بمعنى ان الرابح الأكبر هو ذلك الذي يحقق لمنافسيه -بالضرورة- اكبر خسارة ممكنه حيث الربح شخصي والخسارة مشاعية

كوكب الأرض مثلا ، هو نظام إيكولوجي (بيئي) مُغلق ومحدود . فهو لا يتمدد في المساحة او يستقبل أي عناصر دخيلة سوى الطاقة (من الشمس بشكل رئيسي) ولا يفقد ايضا سوى الطاقة . هذا النظام الإيكولوجي لديه القدرة على موازنة نفسه بشكل أو بآخر . الحيوانات الضعيفة والغير مؤهلة تموت أو حتى تنقرض والحيوانات المؤهلة تستمر لتتطور وتتكيف . البقاء للأصلح كان هو القانون الذي يُطبق بشكل حتمي على جميع كائنات النظام البيئي (الأرض) ويصحح أخطاؤه / إنحرافاته ذاتيا . كان القانون الطبيعي هو القانون الذي يسري على جميع الكائنات الحية على الكوكب قبل ان يقرر ذلك الجنس الواحد (الإنسان) ان يتمرد عليه . والمفارقة - من وجهة نظري - ان الإنسان حين تمرد على ذلك القانون البيئي/الطبيعي  صار مُجبرا ان يخلق قانونه الخاص/البديل أو الموازي وهو ما نعرفه بالقوانين بكل اشكالها العرفية / القبلية/ الوضعية / الدساتير وحتى القوانين الدينية.
بدأت الحاجة إلى القانون (بشكله التجريدي) حين قرر الإنسان أنه لن يلعب لعبة "الطبيعة" وان عليها هي ان تلعب لعبته .

الحل لمشكلة مأساة المشاع التي لاحظها هاردن هي في إرساء شكل ما من اشكال القانون عبر تقسيم الأرض إلى وحدات ذات ملكيات خاصة مملوكة لأصحابها بوضع اليد أو إعادة توزيع للمساحة على مجموعة محددة ممن لهم حق الإنتفاع بكل حصة من قبل جهة مركزية عليا ؛ مثل جهاز الدولة. ( النظم الرأسمالية / الإشتراكية مثلا .. في تبسيط أعترف انه قاصر لكنه متوافق مع الفكرة )

مأساة المشاع تظهر بوضوح أكبر في ظل غياب القانون حيث يقوم كل فرد بفعل ما يحقق له مصلحة شخصية كُبرى بدون النظر إلى تأثير فعله على المستوى العام أو طويل الأمد حتى وإن تعارضت المصلحتين (مصلحته الوقتية ومصلحته في تحقيق منفعة مستدامة مستمرة ) . في غياب القانون سيكتشف أصحاب المصانع ان تكلفة تصريف مخلفاتهم الصناعية بشكل صحي أكبر من مجرد إلقاءها في مجرى النهر، لكن تلويث النهر يقتل الأسماك ويضر الصيادين والمجتمعات المنتفعة بالثروة السمكية في الجوار والإختلال البيئي الناتج عن التلوث يضر حتى مصالح أصحاب المصانع انفسهم على المدى البعيد لكن كل صاحب مصنع يفعلها لأن "الجميع سيفعلها" فلا معنى من ان أخسر بمفردي .
سائق السيارة الذي يسير عكس الإتجاه أو يصف سيارته في نهر الطريق يدرك جيدا ان أفعاله تؤدي إلى تعطيل حركة السير على الطريق "المشاع" لكن لا معنى من الإلتزام والخسارة بمفرده لأن "الجميع سيفعلونها" . "الملكية العامة" ليست "مشاعا" ولكنها تصبح كذلك في غياب القوانين المنظمة . المال العام في مصر مثالا حيث يُنظر احيانا إليه بالشكل التالي :  
المال العام  = مال للجميع = مال لا صاحب له = استفادتي القصوى منه هي ان أحصل على اكبر قدر منه . وسابق معرفتي بحقيقة ان الجميع يخسر في النهاية لا يشكل فرقا  لأني إن لم أفعلها سيفعلها الآخرين ولا هدف من الخسارة منفردا .

القانون إذن هو ضرورة مجتمعية هدفها هو إنشاء التوازن المطلوب/الضروري لبقاء المجتمع كنظام يحقق اقصى استفادة \ مصلحة ممكنة لأفرادة ولأطول فترة ممكنة / مستدامة وكلما توسعت أنشطة ومصالح الافراد وتشابكت مع بعضها البعض كلما تمددت القوانين وتفرعت لتحافظ على المصلحة المستدامة للمجتمع كنظام كامل بأقل مساس ممكن بمصلحة أفراد المجتمع الفردية .
التوازن البيئي الذي كان يحدث تلقائيا بين الكائنات الحية في الطبيعة قد صار لزاما على الإنسان وهو بصدد إنشاء طبيعته الخاصة (البيئة كمستعمرة بشرية ) ان يبتكر توازنا جديدا ومعادلة جديدة الرقم الثابت فيها هو الإنسان نفسه ومصلحته كفرد وكمجموعة . 
القوانين المجتمعية بدأت ربما مع بداية الثورة الزراعية منذ ما يقرب من عشرة آلاف سنة حين بدأ الإنسان يتعامل مع الطبيعة المحيطة كمستعمرة وليس ك "مشاع" يشاركه فيها سائر الكائنات الحية والتوازن الأمثل للقوانين هو ان تحافظ وتنمي مصالح الفرد الشخصية /الوقتية بشرط عدم تعارضها مع مصلحة الجماعة البشرية المستدامة / الدائمة أو المستقبلية وأي قانون لا يسير في هذا الإتجاه هو قانون لا جدوى من تفعيله .


على باب الله

Developer

Cras justo odio, dapibus ac facilisis in, egestas eget quam. Curabitur blandit tempus porttitor. Vivamus sagittis lacus vel augue laoreet rutrum faucibus dolor auctor.