" بنرحب بيك معانا .. إحنا فعلاً كنا محتاجين دم جديد "
أقف بعيداً عنهم ... على الرصيف المقابل من الشارع الضيق أراهم من خلال أفواج المارة يحجبني عنهم من حين لآخر توك توك صغير يتوقف ليترجل منه أحدهم و لكنه سرعان ما يكمل طريقه
أترك لهم مساحة من الحرية و أراقب كيف يدير هو المناقشة معها ... هاديء هو كالصخر يتكلم بوجه صاف , يكسوه تعبير مبهم أما هي فكانت كتلة أعصاب معجونة بالقلق تستخدم يديها بكثرة و هي تتحدث ... كان من المستحيل بالطبع أن أفهم إلي ماذا كانت تشير بالنسبة إلي كانت إشارات يديها تقول " أشياء ما تذهب ... أشياء ما تجيء .. أشياء ما تصطدم " لذلك كففت عن محاولة فهم ما تقول إذ أدركت أنها ممارسات غير مجدية
" بنحاول نعمل فرق ... بنشوف الأسر المحتاجة .. بنعمل بحث .. بنشوف محتاجين أيه .. و بنحاول نوفره "
لاحظت أن بشرتها حمراء , جافة و مشدودة .. كأنما عادت لتوها من المصيف
جلبابها الأسود مصلوب على جسدها النحيل , تتعلق بذيله طفلة صغيرة تتمايل بدورها يميناً و يساراً كلما تمايلت أمها و هي تلوح و تشير بيديها في محاولتها اليائسة لتجسيد ما تقول
" خلي بالك .. في ناس محترفة معونات .. تاخد مننا و من غيرنا .. اللي محتاج بجد .. ما بيتكلمش "
يشير إلي أن آتي .. فأهرع إليه عابراً الشارع غير الممهد
يريدني أن أصطحب الطفلة الصغيرة إلي المخزن لأعطيها الكتب الخارجية للصف الأول الإبتدائي
أسأله
" هل أعود معها إلي هنا مرة أخرى ؟ "
" لا أنتظر أنت هناك "
أراقبها و هي تسير بجانبي , تقفز فوق الحفر و أكوام القمامة في رشاقة و خبرة , تتمتم بكلمات أغنية شعبية و تتوقف من حين لآخر لترجع برأسها الصغير إلي الوراء ... تغمض عينيها و تمد يديها لقطرات المطر ... تجيبها السماء بالمزيد
" خليك في السليم ... يعني ما تروحش لأسرة فيها بنات إلا و معاك زميلة .. الناس هنا ما وراهاش غير الكلام "
يهرول الجميع ملتصقين بالحوائط على جانبي الطريق , يلملم الباعة الجائلين بضاعتهم
تجمع النساء الغسيل من على الحبال
اما هي فكانت سعيدة بالمطر
أرغب في أن أضمها إليّ أخبأها تحت معطفي لتحتمي من المطر
أتراجع في آخر لحظة
أفكر في أن أخلع معطفي و ألبسها إياه
لا .. لن يناسبها
أولاد الحرام ما خلوش لأولاد الحلال حاجة
" حاول تتجنب الإتصال الجسدي ... هنا مش مصر الجديدة .. ما تمدش أيدك علشان تسلم على أي بنت أو ست "
فستانها الرخيص المبلل مُلتصق بجسدها
تحول لونه الأحمر إلي العنابي
أعتقد أني رأيتها ترتعش
الجبن سيد الأخلاق
" بلاش تطبطب على حد و ما تقعدش حد من الأطفال على حجرك ... خليك في السليم.. الناس عقلها صغير "
أرفع معطفي لتستقر ياقته فوق رأسي
" هاتي أيدك "
تسلمها لي بدون تردد
أنحني لأحملها على صدري ألفها في طرف المعطف
تجاريني في إستسلام و تكيف جسدها على الوضع الجديد
أحملها بيدي اليسري فيما لا تزال يدي اليمنى ممسكة بيدها
ألاحظ أن كفها الصغير بارد كالثلج