هذا كثير جداً
الرحلة من الموصل إلي بغداد شاقة و طويلة , تسلك خلالها الطريق السريع الموازي لنهر تجري و تمر علي آثار القنابل و العبوات الناسفة التي نهشت من الطريق و جانبيه ما شاء الله لها أن تنهش تاركة وراءها الفتات الذي تساقط من وليمتها في شكل حُفر في الرمال و إنبعاجات حادة في الطريق الأسفلتي , يرافقك على طول الطريق عرض فني مجاني لفنان مجهول يعرض كُتل و قضبان من الحديد المتداخل في أشكال فنية مموهة المعالم معجونة بالطين و الدماء , ركام سيارات مُهشمة على جانبي الطريق تظهر حيناً ثم تختفي .
بالنسبة لرامي كامل .. 43 سنة .. و زوجته و أطفاله كانت الرحلة من الموصل إلي بغداد هي فرصته الوحيدة للنجاة بحياته و حياة أسرته الصغيرة , لقد أدرك رامي أن بقاءه في الموصل أصبح مستحيلاً بعد أن قُتل جاره المسيحي الرابع في أقل من أسبوع .. قتل أمام محل تجارته حيث توقفت سيارة سوداء أمام باب المحل و ترجل منها أربعة رجال مسلحون تابعون لواحدة من الميليشيات المسلحة الجديدة التي نمت و ترعرعت في ظل الإحتلال الأمريكي للعراق , أمطروه بوابل من الرصاص أمام عيني أبنه الذي ألجمه الخوف و هو يراقب ما يحدث من الشباك .
جلس رامي في حديقة قريبه يتحدث إلي مراسل الجريدة الأجنبية بعيون تائهة قائلاً " أنا مدرس رياضيات , من يحتاج لمدرس رياضيات مسيحي في الموصل هذه الأيام ؟ "
منذ مارس 2003 , تذوق مسيحيي الموصل طعم الخوف , أُضرمت النيران في الكنائس و البيوت , بدأت الميليشيات في إستهداف المسيحيين بمختلف فئاتهم و أعمالهم .. تأتيك رسالة علي الموبايل أو تجد ورقة مُعلقة علي باب بيتك فيها تهديد صريح .. " إما أن تغادر الموصل .. أو نذبحك
في مارس وجدت السلطات جثة الأب ( بولس فرج ) , و جدوه مذبوحاً علي حافة البلدة , بعد أن أختطفته الميليشيات لعدة أيام
في أكتوبر .. قام 15 شاباً مسلحاً بأقتحام منزل أسرة مسيحية تسكن علي الضفة الشرقية من نهر تيجري بالقرب من الموصل , جمعوا أفراد العائلة في غرفة واحدة و صادروا تليفوناتهم المحمولة ثم تقدم أحد الملثمين و صوب فوهة مدفعه الرشاش نحو رأس أصغر أطفال العائلة و هدد الأب قائلاً " إن لم تغادروا الموصل سنقتلكم جميعاً و سنبدأ بهذا الطفل "
دون أن يراها أحد تمكنت الزوجة من الإتصال بالشرطة و لكن الشرطة لم تظهر إلا بعد ساعات طويلة ... بعد أن زرع أفراد الميليشيات حمولة ضخمة من المتفجرات في مختلف أنحاء المنزل .. و نسفوه أمام أعين ساكنيه .
في محاولة لتعميق جراح مسيحيي الموصل أكثر و أكثر ... قامت الميليشيات بنصب عدة كمائن في شكل مواقع تفتيش حكومية علي كل الطرق الخارجة من الموصل لأستقبال المسيحيين الهاربين و توقيفهم مما يتيح لهم حتى فرصة أكبر للتسلية عن طريق سرقتهم, ضربهم و إغتصابهم و حتى قتلهم
بجوار حي صادق , أجبر رجل و أبنه علي التوقف فيما كان يبدوا كنقطة تفتيش أمنية و حين لاحظ أفراد الميليشيات أسم الرجل المسيحي الظاهر في بطاقته الشخصية قتلوه في الحال .. و حين قال لهم الطفل أن ذلك الرجل كان أبوه قتلوه هو أيضاً ..
يقول جلال .. أب لسبعة أطفال كان يعيش في تيجري و الآن هو لاجيء سياسي في المانيا ..
" أقتحم أفراد ملثمون منزلي و جمعوا أفراد عائلتي جميعاً في غرفة واحدة ضيقة تحت تهديد السلاح حيث خيروني بين ترك المسيحية أو الموت ... قيدونا جميعاً و تناوبوا علي إغتصاب زوجتي ثم ذبحوها أمام أطفالها السبعة "
منذ سبتمبر .. هرب أكثر من 75% من مسيحيي الموصل البالغ عددهم 20000 فرد , و ذلك طبقاً للإحصاءات الرسمية الصادرة عن وزارة الهجرة العراقية , و هرب أكثر من ثلثيّ مسيحيي العراق منذ 2003
يقول الكاردينال عمانويل رئيس طائفة الكاثوليك الكلدانيين في العراق " لا نعرف لماذا يتم إستهدافنا , نحن لا نمثل أي تهديد لأي شخص أو تيار سياسي نحن فقط 3 % من إجمالي تعداد العراقيين , و بعد أعمال العنف ضدنا تم تهجير قرابة ال 80 % من إجمالي تعداد المسيحيين بالعراق خوفاً علي حياتهم و علي حياة أطفالهم !! ... لا نملك أي ميليشيات مسلحة خاصة بنا ... ليست لنا مطالب "إنفصالية أو توجهات سياسية ... مطلبنا الوحيد هو أن نعيش في سلام ... هل هذا كثير ؟
------
-----