- "لا .. لن تهرب مني أيها البحر .. ليس ثانية"
قالها وهو يهم بسحب حزام الأمان ليربطه حول جسده ثم تراجع عن الفكرة و أدار محرك السيارة
---
صوب مسدسه الفضائي نحو السيارة السوداء بدقة و ضغط الزناد .. أنارت اللمبة البرتقالية في رأس فوهة المسدس وإنبعثت منه أصوات تكتكة معدنية .. " بوووووووخخخخ " .. ماتت السيارة السوداء .
- "بس يا كيمو ، أقعد كويس على الكنبة و خد كل شيبسي "
إعتدل في جلسته و أخذ كيس الشيبسي من والدته وأراحه بجانبه على الكنبة ،تطلع إلى قدميه اللَّتَيْنِ تصلان إلى طرف كنبة السيارة الخلفية بالكاد . لاحظ أن أربطة حذائه مفكوكة ولم يهتم .
ضمها إليه بقوة فإستسلمت و تأهبت ، نظر إلى عينيها و أخبرها أنه يحبها . كانت تعرف أنه لا يعنيها حقا .. قالها برداءة حتى ان السحلية الجبلية التي تراقبهم بتوتر من بعيد كانت تعرف ايضا أنه لا يعنيها . لا تقل انك تحبني فأنا والسحلية لا نهتم ، فقط إخرس وقبلني
---
- " انت وقفت هنا ليه ؟ "
قالتها وهي تعقد ساعديها على صدرها في وضعية دفاعية لا إرادية حاولت ان تبدو عفوية قدر الإمكان وفشلت . كانت ضربات قلبها قد تسارعت فجأة حين إنحرف بالسيارة ليخرج عن الطريق السريع إلى الأرض الرملية قبالة الشاطيء فخرج سؤالها فيما يشبه اللهاث .
- " مفيش، بس عجبني المنظر وقلت ارتاح من السواقة و نريح العربية شوية "
منحها إبتسامة صافية وهو يستطرد ببساطة
- " لو قلقانة ممكن نكمل طريقنا "
- " لا ابدا ، ثم ان المكان هنا جميل فعلا "
---
ملل .. ثم ملل .. يعقبه المزيد من الملل ، الوقت لا يمر . يبدو اننا هنا على الطريق منذ الأذل. هذا الشريط الإسفلتي لا نهاية له . الشمس تحفر في مؤخرة رأسي بمثابرة عجيبة و الرطوبة تلعقني بلذة كأنني قطعة آيس كريم ..
- " انا عايز آيس كريم "
أرى إبتسامة أبي الجالس خلف مقود السيارة في المرآة ، فأكرر بنبرة أعلى
- " انا عايز آيس كريم يا كفرة "
يقهقه أبي و يمسح شاربه وهو يقول
" الواد بيجيب الكلام ده منين ؟ "
تلتفت أمي لتواجهني فيتهدل ثدياها في المساحة الضيقة بين المقعدين الأماميين للسيارة و تخاطبني قائلة:
-" هنجيبلك آيس كريم منين دلوقت ؟! أصبر لما نوصل القاهرة وأتسلى دلوقتي في كيس الشيبسي "
أنظر إلى كيس الشيبسي ثم أعود أتطلع في صمت عبر النافذة . أريد غير ما أملك و أملك ما لا أريد . هل يمكن لهذه الحياة أن تسوء أكثر !
---
" هاه .. ظننت أنك هربت مني ! .. خَمّن من يأتي إليك الآن "
همسها لنفسه باللغة العربية الفصحى - كما ظل يفكر و يحلم و يخاطب الجميع منذ شهور - وهو يراقب مشارف البحر تظهر حينا ثم تتوارى من خلف التلال الصخرية على جانبي الطريق المتعرج كالأفعى .
ضايقته سيارة قديمة تتوسط الطريق الضيق وتسير بحذر مبالغ فيه فأضطر أن يهديء من سرعة سيارته حتى يسمح له الطريق بتخطيها ، ولتكتمل مأساته أطل طفل صغير برأسه من خلف زجاج السيارة الخلفي وظل يصوب نحوه مسدس بلاستيكي. بعد فترة لم يستطع ان يضبط أعصابه فأخذ تليفونه المحمول من فوق تابلوه السيارة و رماه ناحية الولد
---
كيف تخشى شيء إلى درجة الهلع و تشتاق إليه حتى الشبق في نفس الوقت !
على قمة جرف صخري ينحدر إلى البحر جلسا سويا . كان يقبل خدها الأيسر قبلات بطعم الملح ، فيفكر في نفسه أن الموالح من فواتح الشهية .
لسبب ما هدأت ضربات قلبها . هي الآن في كابوسها المُفضل و لم يعد بالإمكان لهذا الموقف أن يصير أسوأ أو أفضل . يلعقها و يهرسها بيديه وهي تنظر إلى البحر و أحيانا إلى السماء لتسمح له بتقبيل رقبتها ، يهمس لها بكلمات مبهمة لا تميز منها ولا حرف واحد . كانت تنتظر أول قبلة . سبعة وعشرون عاما تضع أحمر الشفاة وتغسل أسنانها بإنتظام و تشاهد الأفلام الرومانسية و تنتظر .
---
"أيه اللي خبط ده ؟ "
سألته بهلع فأجابها بتوتر أنه لا يعرف
إرتعش صوتها و بدت كانما ستدخل إلى نوبة هستيريا جديدة
" الصوت كان جاي من ورا . انا خايفة لتكون العجلة ولا تانك البنزين .. أنزل شوف ايه حصل "
كان يعرف انه لا شيء يدعو للقلق . في الغالب زلطة أو حصوة سقطت من عربة نقل ولكنه قرر أن يتوقف وينزل ليطمئن أكثر وليرتاح من وسواسها المرشح للإستمرار و الزيادة إن لم يريحها و يطمئن على السيارة .
خرج عن الطريق السريع وأوقف السيارة ثم ترجل منها ليستطلع الامر و زوجته تتابعه بعينيها و هي تطمئن أبنها قائلة :
- " متخافش يا كيمو . مفيش حاجة إن شاء الله "
أجابها بفخر :
- " مش خايف .. دا موبايل نوكيا "
ثم صوب مسدسه الفضائي إلى قمة صخرية بعيدة مُشرفة على البحر و تحديدا نحو شخصين يجلسان فوقها متلاصقين وظهرهما إلى الطريق ... " بوووووووخخخخ " ... إثنان بطلقة واحدة
---
في بقعة رآها مناسبة دهس فرامل سيارته بقوة كأنما يقتل عقربا فأطلقت الإطارات صريرا مدويا ، نزل بسرعة وأخرج من شنطة السيارة سلسلة حديدية ثقيلة حملها و إتجه نحو الشاطيء
- " إفسح لي مكانا أيها البحر . لا تخبرني ان الوقت غير مناسب . هنالك دائما متسع لصديق قديم "
ربط السلسلة الحديدية حول خصره و لف ما بقي منها حول كتفه و دخل إلى الماء
ضمها إليه بقوة فإستسلمت و تأهبت ، نظر إلى عينيها و أخبرها أنه يحبها . كانت تعرف أنه لا يعنيها حقا .. قالها برداءة حتى ان السحلية الجبلية التي تراقبهم بتوتر من بعيد كانت تعرف ايضا أنه لا يعنيها . لا تقل انك تحبني فأنا والسحلية لا نهتم ، فقط إخرس وقبلني
إنقض على فمها بشهوة و سذاجة فاصطكت أسنانهما ببعضها ، ضربهما ألم حاد فتنافرا يمسك كل منهما فكه
على الطريق كانت الام قد هدأت و أشعل الأب سيجارة و إكتشف الولد كيس الشيبسي القابع بجواره عل الكنبة فأمسكه بيد و ضربه بقبضة يده الأخرى بقوة فإنشق مصدرا صوت طرقعة وتناثرت رقائق البطاطس على ارضية السيارة . إنشغل الأبوين في تعنيف الولد و جمع ما وقع من الكيس فسقطت السيجارة من فم الأب وطاطأ رأسه يبحث عنها وهو يسب أبنه ثم إعتدل كالملسوع على صراخ زوجته و هو يقترب بسرعة من الإصطدام بسيارة خاوية متوقفة في منتصف الطريق . و في الفراغ بين المقعدين الأماميين مد الولد ذراعيه مصوبا مسدسه الفضائي نحو السيارة الخاوية و أخذ نفسا عميقا قبل ان يضغط الزناد لكيلا يخطيء
"هذه المرة أتيت إليك مستعدا ايها البحر .. لا هروب هذه المرة ، لن تستطيع ان تلفظني وانا أربط نفسي بهذه السلسلة الثقيلة ، سوف تتجرعني رغما عنك .. أوتدري ماذا .. أتمنى أن تتسمم "