(( فهيم ))
هوت على صدغه صفعة قوية لم يرها و هي قادمة إلا بعد أن ولّى وقت الهروب أو الإستعداد .. فلم يسعه إلا أن يغمض لها عينيه متوقعاً نصيباً لا بأس به من الألم . أتته الصفعة من حسين ذلك الطفل البدين السمج زميله في الفصل و شريكة في التختة أعقبها بقهقهة طفولية ساذجة و هو يقول :
" هذه تحية الصباح يا فهيم "
آلمته الصفعة و لكنه كالعادة لم يبد عليه التأثر و لم يلتفت إلي صاحبها فلقد إعتاد علي مثل هذه المضايقات اليومية من حسين و ممن سواه و أكتسب مع الوقت و توالي المضايقات بعضاً من الخبرة التي تمكنه من حسن التصرف في مثل هذه المواقف , كان يعرف أنه و بجسده النحيل الضامر و قامته القصيرة لا قبل له بمنازلة أقرانه من التلاميذ أصحاء الجسد و محترفي الشجار و البلطجة . كان يعرف جيداً حجم قوتهم و يعرف أكثر حجم ضعفه .
لذلك فعل كما يفعل دائماً .. تجاهل ما حاق به من إعتداء و لم تبدر من ملامحه أي بادرة إحتجاج أو تزمر و كظم ألمه و توجعه و غيظه فلم تظهر في ملامحه أيه إشارة لما يعترك في قلبه آملاً أن ينجح بروده و لا مبالاته في إخماد ثورة حسين نحوه فيلتفت إلي طفل آخر يصب عليه فاصلاً جديداً من الصفعات و الركلات , و تشاغل هو بالنظر إلي أستاذ مكرم مُعلم اللغة الإنجليزية و هو يشرح الدرس علي السبورة دونما إهتمام حقيقي بما يقول و ما يشرح من دروس . و يبدو أن حيلته تلك قد كُللت بالنجاح فأنصرف عنه حسين و أنخرط مع أصدقائه في مضايقة طفل آخر تعيس الحظ .
و حينما إطمأن إلي أن حسين و أصدقاءه متشاغلون عنه إلتفت ناحية الجدار و أطلق أنّة خافتة و ضغط علي مكان الصفعة براحة يده كأنما ليعيد العظام إلي مكانها مرة أخري بعد أن إنخلعت تحت وطأة الضربة ثم زم شفتيه و هو يقول لنفسه : " دائما من الناحية اليسرى ... دائماً يتسللون علي من الجهة اليسرى . "
يغضبه أنهم يستغلون عاهته , ذلك الحول الذي أصاب عينه اليسرى منذ كان رضيعاً فأتلفها و أصبح لا يري بها .
قالت له أمه أنها الحمى التي داهمته لأسابيع و هو بعد رضيع و أفترسته بشراسة فأعملت فيه مخالبها و أسنانها
فنحلت جسده نحلاً و عافت نفسه اللبن لأيام كأنما أستسلم للمرض و فقد رغبته في الحياة إلي أن يأس الجميع من شفاؤه و توقعوا له الموت , و صارت أمه تهتم بنظافته و تحممه بالماء و الصابون بإستمرار لكي لا يعود جسده بحاجة للغسيل إذا داهمه الموت ، إلى أن أقبلوا إليه ذات صباح ليجدوا أن الحمي قد تركته إلي غير رجعة و لكنها أطارت معها عينه اليسرى التي صارت حرة تهيم في مُقلتها كأنما نبت لها عقل خاص , تذهب مُسرعة في جميع الإتجاهات و لا سلطان له عليها , فتارة تذهب إلي أقصي اليسار و تارة تستقر في القاع دون حراك و أحياناً تلعب في دوائر كأنما تتابع كرة يتقاذفها الملائكة أو تشاهد مباراة حماسية لا تراها عين سواها .. و في هذا كله لا هو يشعر بشيء و لا هو قادر علي الإبصار بهذه العين الغريبة النشيطة التي تنظر في جميع الإتجاهات و النواحي و لكنها لا تبصر شيء , أو تبصر و لكنها تأبي أن تخبره بما تراه و تتابعه .
كان يبصر بعين واحدة فقط , عينة اليمنى .. لذلك لم يكن يرى من يقبل عليه من يسراه إلي أن يدخل في مجال رؤية عينه اليمنى السليمة , و كعادة الصغار حين تتملكهم قسوة جبارة لا أحد يعرف كيف و متى استطاعت أعمارهم الصغيرة أن تعثر عليها و تنميها لترفعهم إلي مرتبة الشياطين , أستغل أقرانه و ز ملائه في الفصل و المدرسة عاهته خير إستغلال , فدأبوا علي مفاجأته من جهة اليسار و تفننوا في التسلل له من هذه الجهة العمياء و هو غافل عنهم لا يراهم فتارة يكتفون بمفاجأته بغرض إخافته , و تارة يعاجلوه بلكمة أو صفعة تنزل علي جسده بغتة كأنما هبطت عليه من السماء . ثم يتضاحكون عليه و يجتر هو الألم و الإهانة و إنخلاع القلب .
-------
دوى رنين الجرس مجلجلاً يتردد صداه في جنبات المدرسة معلناً إنتهاء الحصة الأولي , فكف أستاذ مكرم عن الشرح و لملم أوراقه و غادر الفصل بسرعة , فعمت الفصل الفوضى و علت الاصوات و الهتافات و تداخلت الضحكات مستمتعة بحرية لا ينغصها وجود أستاذ أو مشرف في الفصل .
إنتهز فهيم الفرصة فوثب من جلسته و ذهب إلي باب الفصل يطل منه برأسه إلي الطرقة الطويلة الممتدة بين الفصول مستكشفاً الطريق , و حين لاحظ أن الطرقة خالية من المشرف و المدرسين عاد مرة أخري إلي التختة الخشبية حيث كان يجلس و أخذ حقيبته المدرسية فألقاها على كتفه و هو يقول لحسين " الفرصة سانحة للزوغان " و دون أن ينتظر رداً إنطلق يعدو في إتجاه باب الفصل و حقيبته ترتج فوق ظهره .
فأبتسم حسين و هو يقول لأصدقاءه في سخرية :
- " ابن اللئيمة ... لا يقضي في المدرسة نصف الوقت الذي يقضيه في الشارع "
رد عليه صوت يحمل نفس نبرة السخرية قائلاً :
- " أغلب أساتذة الفصل لا يعرفونه لندرة الوقت الذي يقضيه في المدرسة , لا يترك فرصة للزوغان و لا ينتهزها .. ترى إلي أين يذهب ؟ "
هرع فهيم إلي الطرقة الكبيرة و حث الخطى إلي أن أدرك نهايتها حيث تقع الغرفة الزجاجية الخاصة بمشرف الفصول و شعر بأرتياح كبير حين وجدها خالية , فوجود المشرف بداخلها كان كفيلاً بإفساد مغامرته الصغيرة للهرب كما أفسدها من قبل مرات عديدة حين أصطدمت آماله بنظرات المشرف الحادة الآمرة من خلف حوائط غرفته الزجاجية التي تمكنه من أن يكشف ببصره كل ما يدور في الطرقة من أولها إلي آخرها , و لكنه لم يكن موجوداً هذه المرة لحسن الحظ .. فشد فهيم علي ذراع حقيبته و طوى الطريق طياً إلي الجهة المقابلة من الطرقة و دلف بنعومة إلي داخل غرفة المراحيض المخصصة للطلبة و أنتظر قليلاً متظاهراً بغسل يديه إلي أن فرغت تماماً من الطلاب فذهب إلي آخر مرحاض من جهة الحائط ذلك الذي حمل بابه قفلاً معدنيا كبيراً و لافتة صغيرة كتب أحدهم عليها بخط رديء " عطلان " و أخرج من حقيبته مفتاح صغير أولجه في القفل الحديدي و أداره فأستجاب له القفل و انفتح فأخرجه من اللسان الخشبي الذي كان متعلقاً به ثم وارب الباب و نفذ منه داخلاً فأستقبله المرحاض المكسور بالداخل فوقف على حافته و أطل برأسه من فوق الباب ذو اللافتة و مد زراعيه النحيلتين إلي أن وصلت أنامله إلي لسان الباب الخشبي في الجهة الخارجية من الباب فطواه علي بعضه و أشبك القفل الكبير فيه و أغلقه مرة أخري , فعاد باب المرحاض المعطل مرة أخرى إلي صورته الأولي كاتماً السر و متحفظاً على ذلك المتسلل الصغير الذي يختبيء بداخله .
جلس القرفصاء علي كرسي المرحاض المكسور حتي لا يلمح أحدهم قدميه من تحت عقب الباب و أراح حقيبته علي حِجره و أنتظر قليلاً في تحفز و خوف يرهف السمع فمرت دقائق لم يسمع فيها شيء إلا صوت دقات قلبه المتسارعة و أنفاسه اللاهثة .. فاطمأن إلي زوال الخطر و تحقق من نجاح مغامرته .
فعل كل هذا في سرعة و روتينية و خبرة لص عتيق العهد بالإجرام معتاداً علي مجابهة المخاطر .
كان يستمتع أيما إستمتاع بلحظات الخطر و الترقب و وقع أنامل الخوف حين تتحسس مؤخرة رأسه في حذر , كان بإستطاعته – دوناً عن بقية أقرانه – أن يعرف جيداً كيف يشعر لاعب السيرك و هو يسير علي الحبل , كيف تتسارع دقات قلبه و تتحفز عضلاته و هو يقف علي إرتفاع شاهق مرتكزاً بقدميه علي الحبل , يعرف جيداً أن الموت يكمن له مترقباً بين الجمهور منتظراً أن يختل توازنه , حقاً أن أكثر المستمتعين بهذه اللعبة هو لاعب السيرك نفسه لا جمهور المتفرجين الذي يجلس علي الأرض بأمان و عيونه متعلقة بالسماء .
" زال الخطر " قالها لنفسه بعد دقائق من الترقب , و فتح حقيبته فأخرج منها كتابان ظل يقلب فيهما و هو متحير
أيقرأ هذا أم ذاك ؟ ثم أستقر علي أحدهم فأراحه فوق حقيبته و فتحها نصف فتحة فدس الكتاب الآخر بداخلها ثم إعتدل في جلسته و عدّل من وضع حقيبته علي حجرة فأسند الكتاب علي سطحها و قرأ المكتوب علي جلدته بصوت خافت كالهمس .. " الأيام .. للدكتور طه حسين " ثم فتح الكتاب علي أول صفحة و شرعت عينه اليمنى السليمة تأكل سطور الكتاب أكلاً و ظل قابعاً لساعات علي جلسته تلك بعيداً عن الأعين و الآذان يقرأ في صمت و خشوع .
---------------
جيمي حليم
Tinariwen - Cler Achel