كائنات البحر والاسفلت

by Tuesday, May 28, 2013 0 تعليقات

- "لا .. لن تهرب مني أيها البحر .. ليس ثانية" 
قالها وهو يهم بسحب حزام الأمان ليربطه حول جسده ثم تراجع عن الفكرة و أدار محرك السيارة 
---
صوب مسدسه الفضائي نحو السيارة السوداء بدقة و ضغط الزناد .. أنارت اللمبة البرتقالية في رأس فوهة المسدس وإنبعثت منه أصوات تكتكة معدنية .. " بوووووووخخخخ " .. ماتت السيارة السوداء .
- "بس يا كيمو ، أقعد كويس على الكنبة و خد كل شيبسي " 
إعتدل في جلسته و أخذ كيس الشيبسي من والدته وأراحه بجانبه على الكنبة ،تطلع إلى قدميه اللَّتَيْنِ تصلان إلى طرف كنبة السيارة الخلفية بالكاد . لاحظ أن أربطة حذائه مفكوكة ولم يهتم .
---
- " انت وقفت هنا ليه ؟ " 
قالتها وهي تعقد ساعديها على صدرها في وضعية دفاعية لا إرادية حاولت ان تبدو عفوية قدر الإمكان وفشلت . كانت ضربات قلبها قد تسارعت فجأة حين إنحرف بالسيارة ليخرج عن الطريق السريع إلى الأرض الرملية قبالة الشاطيء فخرج سؤالها فيما يشبه اللهاث . 
- " مفيش، بس عجبني المنظر وقلت ارتاح من السواقة و نريح العربية شوية " 
 منحها إبتسامة صافية وهو يستطرد ببساطة
- " لو قلقانة ممكن نكمل طريقنا " 
- " لا ابدا ، ثم ان المكان هنا جميل فعلا "
---
 ملل .. ثم ملل .. يعقبه المزيد من الملل ، الوقت لا يمر . يبدو اننا هنا على الطريق منذ الأذل. هذا الشريط الإسفلتي لا نهاية له . الشمس تحفر في مؤخرة رأسي بمثابرة عجيبة و الرطوبة تلعقني بلذة كأنني قطعة آيس كريم .. 
- " انا عايز آيس كريم " 
أرى إبتسامة أبي الجالس خلف مقود السيارة في المرآة ، فأكرر بنبرة أعلى 
- " انا عايز آيس كريم يا كفرة " 
يقهقه أبي و يمسح شاربه وهو يقول 
" الواد بيجيب الكلام ده منين ؟ " 
تلتفت أمي لتواجهني فيتهدل ثدياها في المساحة الضيقة بين المقعدين الأماميين للسيارة و تخاطبني قائلة: 
-" هنجيبلك آيس كريم منين دلوقت ؟! أصبر لما نوصل القاهرة وأتسلى دلوقتي في كيس الشيبسي " 
أنظر إلى كيس الشيبسي ثم أعود أتطلع في صمت عبر النافذة . أريد غير ما أملك و أملك ما لا أريد . هل يمكن لهذه الحياة أن تسوء أكثر !
 ---
 " هاه .. ظننت أنك هربت مني ! .. خَمّن من يأتي إليك الآن " 
همسها لنفسه باللغة العربية الفصحى - كما ظل يفكر و يحلم و يخاطب الجميع منذ شهور - وهو يراقب مشارف البحر تظهر حينا ثم تتوارى من خلف التلال الصخرية على جانبي الطريق المتعرج كالأفعى . 
ضايقته سيارة قديمة تتوسط الطريق الضيق وتسير بحذر مبالغ فيه فأضطر أن يهديء من سرعة سيارته حتى يسمح له الطريق بتخطيها ، ولتكتمل مأساته أطل طفل صغير برأسه من خلف زجاج السيارة الخلفي وظل يصوب نحوه مسدس بلاستيكي. بعد فترة لم يستطع ان يضبط أعصابه فأخذ تليفونه المحمول من فوق تابلوه السيارة و رماه ناحية الولد 
---
كيف تخشى شيء إلى درجة الهلع و تشتاق إليه حتى الشبق في نفس الوقت ! 
على قمة جرف صخري ينحدر إلى البحر جلسا سويا . كان يقبل خدها الأيسر قبلات بطعم الملح ، فيفكر في نفسه أن الموالح من فواتح الشهية .
لسبب ما هدأت ضربات قلبها . هي الآن في كابوسها المُفضل و لم يعد بالإمكان لهذا الموقف أن يصير أسوأ أو أفضل . يلعقها و يهرسها بيديه وهي تنظر إلى البحر و أحيانا إلى السماء لتسمح له بتقبيل رقبتها ، يهمس لها  بكلمات مبهمة لا تميز منها ولا حرف واحد . كانت تنتظر أول قبلة . سبعة وعشرون عاما تضع أحمر الشفاة وتغسل أسنانها بإنتظام و تشاهد الأفلام الرومانسية و تنتظر . 
---
 "أيه اللي خبط ده ؟ " 
سألته بهلع فأجابها بتوتر أنه لا يعرف 
إرتعش صوتها و بدت كانما ستدخل إلى نوبة هستيريا جديدة 
" الصوت كان جاي من ورا . انا خايفة لتكون العجلة ولا تانك البنزين .. أنزل شوف ايه حصل " 
كان يعرف انه لا شيء يدعو للقلق . في الغالب زلطة أو حصوة سقطت من عربة نقل ولكنه قرر أن يتوقف وينزل ليطمئن أكثر وليرتاح من وسواسها المرشح للإستمرار و الزيادة إن لم يريحها و يطمئن على السيارة .
خرج عن الطريق السريع وأوقف السيارة ثم ترجل منها ليستطلع الامر و زوجته تتابعه بعينيها و هي تطمئن أبنها قائلة : 
- " متخافش يا كيمو . مفيش حاجة إن شاء الله " 
أجابها بفخر : 
- " مش خايف .. دا موبايل نوكيا " 
ثم صوب مسدسه الفضائي إلى قمة صخرية بعيدة مُشرفة على البحر و تحديدا نحو شخصين يجلسان فوقها متلاصقين وظهرهما إلى الطريق ... " بوووووووخخخخ " ... إثنان بطلقة واحدة 
 ---
في بقعة رآها مناسبة دهس فرامل سيارته بقوة كأنما يقتل عقربا فأطلقت الإطارات صريرا مدويا ، نزل بسرعة وأخرج من شنطة السيارة سلسلة حديدية ثقيلة حملها و إتجه نحو الشاطيء 
- " إفسح لي مكانا أيها البحر . لا تخبرني ان الوقت غير مناسب . هنالك دائما متسع لصديق قديم " 
ربط السلسلة الحديدية حول خصره و لف ما بقي منها حول كتفه و دخل إلى الماء 

ضمها إليه بقوة فإستسلمت و تأهبت ، نظر إلى عينيها و أخبرها أنه يحبها . كانت تعرف أنه لا يعنيها حقا .. قالها برداءة حتى ان السحلية الجبلية التي تراقبهم بتوتر من بعيد كانت تعرف ايضا أنه لا يعنيها . لا تقل انك تحبني فأنا والسحلية لا نهتم ، فقط إخرس وقبلني 
إنقض على فمها بشهوة و سذاجة فاصطكت أسنانهما ببعضها ، ضربهما ألم حاد فتنافرا يمسك كل منهما فكه

على الطريق كانت الام قد هدأت و أشعل الأب سيجارة و إكتشف الولد كيس الشيبسي القابع بجواره عل الكنبة فأمسكه بيد و ضربه بقبضة يده الأخرى بقوة فإنشق مصدرا صوت طرقعة وتناثرت رقائق البطاطس على ارضية السيارة . إنشغل الأبوين في تعنيف الولد و جمع ما وقع من الكيس فسقطت السيجارة من فم الأب وطاطأ رأسه يبحث عنها وهو يسب أبنه ثم إعتدل كالملسوع على صراخ زوجته و هو يقترب بسرعة من الإصطدام بسيارة خاوية متوقفة في منتصف الطريق . و في الفراغ بين المقعدين الأماميين مد الولد ذراعيه مصوبا مسدسه الفضائي نحو السيارة الخاوية و أخذ نفسا عميقا قبل ان يضغط الزناد لكيلا يخطيء 
 
"هذه المرة أتيت إليك مستعدا ايها البحر .. لا هروب هذه المرة ، لن تستطيع ان تلفظني وانا أربط نفسي بهذه السلسلة الثقيلة ، سوف تتجرعني رغما عنك .. أوتدري ماذا .. أتمنى أن تتسمم " 


على باب الله

Developer

Cras justo odio, dapibus ac facilisis in, egestas eget quam. Curabitur blandit tempus porttitor. Vivamus sagittis lacus vel augue laoreet rutrum faucibus dolor auctor.